الإنسان الخارق
لو أن آدم لم يأكل التفاحة لما هبط من الجنة، ولو أن قابيل لم ينجر وراء عاطفته لما قتل أخاه، ولو أن بني إسرائيل لم يأخذهم الفضول للسؤال عن لون البقرة لما كلفهم الأمر كل تلك المشقة في البحث عن البقرة الصفراء.
الحياة بسيطة أكثر مما نتصور، بسيطة جدا.
لولا أن الإنسان نفسه يعقدها، يجعلها تتعالى حتى يصعب عليه الإمساك بها، ويعيش بعدها يمقت الصعوبة تلك التي صنعها بيده.
الطبيعة الحيوانية في الإنسان تجعله يلهث وراء أمور لا جدوى منها، يجد نفسه حين يملكها أشبه ما يكون بمقيد.
عادة ما يطلق العامة على الطفولة مصطلحات منمقه مثل "العفوية، البراءة، الملائكية".
يعامل الطفل دائما بشفقة، بعناية بالغة. الجميع يغض الطرف عن أخطاءه بل ويبررون بأنه إقترف خطأه دون إدراك، وأن عقله لم يكتمل بعد.
يكسر إبن الثانية من عمره قارورة زجاجية على أمه في المطبخ، ولا تأبه أمه لكسر القارورة، بل تخاف على الطفل من أن يصاب بخدوش في جسمه نتيجة شظايا الزجاج.
الطفل نفسه بعد عشر سنوات يكسر نفس القارورة، فتهرع أمه غاضبة نحوه وتكسر من تبقى من القارورة فوق رأسه!.
ما الذي إختلف في الحادثة؟
الطفل هو الطفل، والقارورة هي القارورة، الخطأ نفسه، والأم نفسها، ودماغ الطفل والأم بنفس الخلايا التي خلقوا بها.
لا شي يختلف في قضية كسر القارورة، سوى أنها كسرت أول مرة بيد طفل، فيما كسرتها المرة الثانية يد مراهق.
السؤال:
_ماذا لو أن الطفل ذلك لم يكبر؟.
_كانت أمه لن تغضب عليه أثناء كسره للقارورة في المرة الثانية.
لا يستطيع الإنسان أن يمنع نفسه من التقدم في العمر، وإلا لفعل كل فرد ذلك دون شك. لكنما هناك طريقة يستطيع الإنسان أن يفعلها ليظل طفلا.
حتما هناك طريقة.
كلنا نتفق على أن الطفل محبوب في نظر العامة؛ ليس لأن دماغه لم يكتمل كما يفكر البعض، بل بصحيح العبارة لأن دماغه لم يتسخ.
يولد الطفل ودماغه مثل قطعة قماش ناصعة البياض، لا يفكر الطفل بشي حينها بشي سوى لعبه وحلواه، وقتها يكون عفوي، وملائكي.
ثم يحدث أن يكبر ذلك الطفل، وفي مراحل نموه يحتك بأسرته أولا، ثم زملائه في المدرسة، ثم مجتمعه في السوق والملعب والشارع والجامعة والمقهى ووسائل التواصل. يلاحظ، يتابع، يتعلم، يكتسب سلوكيات وتصرفات يحاكيها فيما بعد على نفسه، ويصبح مثلهم تماما.
يلحظ أحد زملائه في الصفوف المتوسطه يقبل فتاة في نفس العمر وسط مبنى مهجور في المدرسة، وتبدأ خيوط العاطفة تتمحور في دماغه.. يترجمها صباح اليوم التالي في الحصة الأولى على شكل نظرات إعجاب للفتاة نفسها التي تشتكي تصرفاته المزعجة للمعلم الذي بدوره يطرد الفتى الذي قالت عنه أمه حين كسر القارورة في الوهلة الأولى بأنه طفلا.
لا يطرد فحسب، بل ويقولون عنه مراهق أيضا.
المراهق يكبر..
وكلما كبر وجد نفسه مطالبا بتقليد عادات مجتمعه.
وكلما قلد عادة تغير إسمه.
ذات يوم..
حدث أن تأخر في عمل ما خارج قريته، عاد منتصف الليل، وصادف أن كانت تلك الليلة التي مر فيها حين مر مثقلا بكومة أفكارا فلسفية حول قضية الوجود في أزقة المنازل المجاورة لمنزله ليلة خميس.
شدت إنتباهه روائح البخور التي تتصاعد من شرفات البيوت مثل مداخن، أنصت وقلبه يرجف لصوت ناعم يبدو وكأن أحدهم يحاول أن يخنقه حتى أن ذبذبات صوتها كانت تصل نحوه على شكل تأوهات متقطعه..
تجاهل الأمر.. مضي نحو عرينه، وفي رأسة فكرة أنه سيصل ليكمل قراءة_هكذا تكلم زرادشت_روايته المفضلة التي أقتناها صباح الجمعة الفائته من بائع يعرض رواياته على رصيف المدينة المملؤة بالضجر.
كان يقرأ عن الإنسان الخارق، وفي دماغة فكرتان متناقضتان تشغله، فكرة أنه أصبح بحاجة ماسة ليتزوج، ليلهوا ليلة الخميس كما يلهو أترابه في الجوار.
بدت له الفكرة عقيمه، فكرة براس دون جسد، فكرة تشير نحو مكان دون خارطة، إذا لا سبيل نحوها البته، لا فتاة يحبها، ولا مال يقتنيه.
كان لا يفكر في الوسيلة، بقدر ما يفكر بالإسم الذي سيطلقه عليه المجتمع أثناء سعيه نحو الغاية.
في الجوار أيضا..
فتاة منحرفة لم يحدث أن عاشت ليلة خميس منذ زمن.. يقول في نفسه ماذا لو......؟.
يقاطع نفسه قائلا: أبدا، أبدا.. سيقولون عني منحرف.
يعدل من وضعيته، يتناول الكتاب، يفتحه ليواصل قراءته عن الإنسان الخارق والفكرة الثانية تخطر في باله من جديد..
قطعة أرض وحيده ورثها عن أباه الذي فارقه وهو في سن المراهقه..
_ماذا لو بعتها وتزوجت لأجل ليلة الخميس هذه؟.
يصمت قليلا ثم يتمتم.. لكن لا مصدر رزق لي حتى اللحظة أعتمد عليه؟.
ماذا لو عجزت عن إعالتها فيما بعد؟ ماذا سيطلقون علي؟.
سيقولون رجل فاشل مثلا؟
عاجز؟
ضعيف؟.
يحاول أن يبعد التشتت الذي يأخذه بعيدا عن كتابه، يقطع تفكيره وينهمك في قراءة الروايه، لعله يجد ضالته هناك.
لا أعلم إن كان قد أكمل قراءة الرواية أم لا، بيد أني موقن بأنه وصل لقناعة من أن هذا الإنسان يستطيع فعلا أن يكون شي خارق، فوق التصور، شي أكبر من أن ينقاد وراء نزوات حيوانية لا جدوى منها.
يستطيع فعلا.
يستطيع الفرد أن يظل طفلا حتى وهو في سن الخمسين من عمره.. ومن قال لا يستطيع؟.
بإمكانه أن يحافظ على إتزان خطواته في المطبخ،. حينها لن يكسر القاروره، ولن تضربه أمه.
بإمكانه أيضا أن يغض الطرف عن زميلته في المدرسه، وقتها لن يطرده المعلم ولن يقول عنه أحد بأنه فتى مراهق.
بإمكانه أن يكبح رغبة الذهاب في طريق غير مشروعة ليلة الخميس، ولن يطلق عليه أحد مصطلح الانحرف.
بإمكانه أيضا ألا يتزوج في ظرف لا يستطيع فيه الإنفاق، وعندها لن يشمت به أحد ولن يتهمه أحد بالضعف والعجز.
وسيظل طفلا.
ص.
تعليقات
إرسال تعليق