يوم كنت نبيا وآدم بين الطين والماء
ما زلت حتى اللحظة ألمح ذلك الطفل بعد خروجه من المدرسة في الصفوف الأولى وقت الظهيرة، والشمس في كبد السماء تنال من بشرته السمراء، والجوع يعصر أمعائه.
يلتفت يمينا شمالا...
وقد إرتسمت ملامح الإرهاق على وجهه، لعل من يسد رمقه بشي يساعده على الوصول نحو قريته في أعالي الجبال حيث لا طريق ولا بئر ولا أبآء يشعرون بالمسؤولية، . دون جدوى.
ثم ما يلبث أن يستسلم للأمر الواقع.
يحمل أثقال جسمه، يمتطي تلك الجبال،يستقيم تارة وأخرى يجثوا على ركبتيه..
يترنح بساقيه النحيفتين، حتى يبلغ به التعب مبلغه.
يصل البيت والمؤذن ينادي الرعاع للصلاة.
يفتش في "المذرى" _الوعاء الذي يحفظ فيه القرويين بقايا خبز وجبة الإفطار_ فلربما يحصل فيه شيئا من الفتات مع كوبا شاي بارد.
وربما وجده خاويا.
ووجد نفسه مضطرا للإنتظار ساعة إضافية حتى تعد أمه وجبة الغداء.
ما أصعب أن تولد أنت والمعاناة من بطن واحده!
توجعه الأيام قبل أن يشتد عوده، يضيق قلبه لما يجري ولا يجد من يمسك بيده نحو الخلاص.
يستند بظهره على أحد الجدران يصارع الموت المحقق، يتنفس بصعوبة، وتنبس شفتاه بكلمة خفيفة تهمس نحو السمآء..
_ يا الله رفقا بمن لا يملك الرفيق.
فيرسل الله ملكا ينفخ في روحه المتهالكة شيئا من روحه، فتطمئن الروح وتهدأ الأنفاس ويوقن الطفل بأن هناك أنيسا في السماء يغنيه عن تجاهل أهل الأرض ويكفيه.
هكذا إستيقظت في هذه الحياة على الله.
وجدتني وحيدا ولا سوى الله أرفع إليه استغاثتي كلما صعبت علي الحياة. الأمر الذي جعلني أحب الله أكثر من أترابي الذين ترعرعوا على دلال أهليهم.
كنت رغم حداثة سني أشعر بأن الله يبادلني شعور الحب نفسه، وربما زاد عليه أحيانا.
حتى أنه كان يوحي إلي وحيا في كل مساء قبل أن أخلد للنوم بفهرس يحوي كل التفاصيل التي سأعيشها في الغد.
حتى حدث مرة أني قلت لأمي وأنا التحف معوز والدي المهترئ استعدادا للخلود في النوم.. بأن لا تتعبي نفسك في تجهيز ملابس المدرسة غدا فلن أذهب.
وبختني ظنا منها بأن ذلك تساهلا مني وتكاسلا عن طلب العلم.لكنها استيقظت والقرية القاحلة على مطر جارف سحق كل شي، عدا العقليات المصدئه في رؤوس القرويين التي ما زالت تعالج الفقر بكسر عودا خشبيا في وجه هلال صفر!
ولم يذهب أحد إلى المدرسة في ذلك الصباح.
ضللت نبيا لأعوام دون أن أخبر أحد.
عدا مرة واحده أخبرت فيها أمي بما يجري، فخافت علي وأخذتني نحو كاهن منحني شيئا من الطلاسم.
ووجدتني مضطرا لكتمان الأمر من جديد.
ظل جبريل يعانقني طوال فترة الطفولة، وسيطا يحمل عني من الحب ما يثقل جناحيه ذهابا نحو ربي، ويعود لي بدلا عنه رحمة ومغفرة ورضوانا وتوفيق.
وفارقني في أول يوم دخلت فيها سن المراهقة، يوم أن بدأ قلبي يميل نحو النساء. والنساء لعنة.
لا يدخل حبهن قلبا إلا أفسده، وسلب عنه الروحانية.
بإمكان كل فردا منا أن يصبح نبيا وأن يصافح جبريل صباح مساء كل يوم مالم يتسخ قلبه بحب فتاة.
على كل.
لقد خيرني ربي في نهاية المطاف بعد أن ظللت عنه قبل أن يقطع عني الوحي، بين أمرين:
_في أن أمنح فتاة تتسول قبلة على قارعة الطريق قبلة.
_أو أن أغض عنها الطرف وأظل نبيا؟
فأردت أن أتذوق أي الأمرين أشد حلاوة. ولم أجد طعما ألذ من تقبيلها، فقبلتها وضحيت لأجلها بالنبوءة.
رغم أني لم أعد نبيا الآن، لكني على الأقل لا أزال أملك شرف الإنتماء لطائفة الأنبياء، وحملة الرسالة السماوية الخالدة.
الأمر الذي لم يجعل لحب الله أن يقل في قلبي مقدار أنمله.
أحبك يا الله. وأبغض هؤلاء الرعاع الذين يوزعون صكوك جنتك لمن يريدون، ويدسون في النار من يريدون حسب أهوائهم.
تعليقات
إرسال تعليق